إنما الخيانة في آبائك الكرد
العنوان أعلاه قول مشهور لأبي جعفر المنصور، ثاني خلفاء بني عباس، وأكثرهم قوة وأذيعهم صيتاً، قاله بعد أن قتل القائد الكردي أبو مسلم الخراساني، وذلك عرفاناً وتقديراً له بعد أن جهر بالدعوة للعباسيين في عهد آخر خلفاء بني أمية مروان بن محمد، في خضم انشغال الأمويين بصراعات أنصارهم القدماء بالشام، وانشقاق زعمائهم على أنفسهم. جمع أبو مسلم الخراساني العرب من حوله، وواصل فتوحاته، حتى وصلت الكوفة، حيث تمت مبايعة أبي العباس كأول خليفة عباسي، وأنشأ بذلك الدولة العباسية، وتمكن من الإطاحة بالأمويين.
مع قيام الدولة العباسية ارتفعت مكانة أبو مسلم، وكان محبوباً من أتباعه ومعظماً بينهم، فخشي منه الخليفة أبو جعفر المنصور، فاحتال لقتله بعد أن أمنه، و قال لأهل خراسان عند ثورتهم لموت أبي مسلم قولته المشهورة:
"أيها الناس، لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسروا غش الأئمة".
أبو جعفر المنصور "العربي المسلم" تولى الخلافة بعد وفاة أخيه أبو العباس والملقب بـ"السفاح" ، فكان أول ما واجهه المنصور ثورة عارمة حمل لواءها عمه عبد الله بن علي الذي رأى أنه أحقُّ بالخلافة من ابن أخيه، فرفض مبايعته، واستظهر بالجيش الذي كان يقوده في بلاد الشام، فبعث أبو جعفر إلى أبو مسلم الخراساني على رأس جيش كبير فهزمه، وما كاد يلتقط الخليفة العباسي أنفاسه حتى أعدَّ العدة للتخلص من أبي مسلم الخراساني، فأغراه المنصور حتى قدم إليه في العراق، ليلقى مصرعه بين يدي خليفة "المسلمين".
أبو جعفر المنصور يمثل دوره الفنان السوري عباس النوري في مسلسل يعرض الأن على شاشة كل العرب (mbc1) كتب السيناريو والحوار له الكاتب الأردني محمد البطوش، ومن إنتاج المركز العربي، ومن إخراج التونسي شوقي الماجري، ويسلط المسلسل الضوء على أبو مسلم الخراساني والذي قام بدوره وأتقنه الفنان الأردني منذر رياحنة، إضافة إلى أنه يتناول المسلسل قصة حياة أبو جعفر المنصور ضمن سياق تاريخي يسلّط الضوء على حقبة زمنية مهمة تمتدّ منذ أواخر عهد بني أميّة وحتى نهاية عهد الخليفة أبي جعفر المنصور، بعد مرور نحو خمسة وعشرين عاماً على تأسيس الدولة العباسية، ويضم المسلسل نخبة من نجوم الدراما العربية والسورية، ويقدّم المخرج شوقي الماجري رؤية فنية درامية تاريخية يَعمد فيها إلى مزج الوقائع التاريخية بكل ما فيها من أحداث مُثبتة ومؤرّخَة بكامل أبعادها التي ميّزت شخصية أبي جعفر المنصور والمحيطين به.
أبدع معدو المسلسل وعملوا بكد على إظهاره بأرقى صورة والذي دعا الناقد الفني بصحيفة "الجريدة" الكويتية فادي عبد الله إلى تحويله إلى فلم سينمائي كونه يحمل ما يؤهله لذلك، لكن تعالوا ندخل في الجملة التي أطلقها خليفة المسلمين أبو جعفر المنصور عندما غدر وقتل المؤسس الحقيقي والداعي الأول للخلافة العباسية أبو مسلم الخراساني، والمغزى "الإنساني" الذي يحاول المسلسل تقديمه عن أبي جعفر من خلال إبراز أهم الإنجازات التي قدّمها ومنها تأمين الحدود الخارجية للدولة، وبناء الرصافة، والرافقة، وقام بالقضاء على القراصنة الهنود، كما نجح خلال خلافته التي دامت اثنين وعشرين عاماً في تثبيت الدولة العباسية ووضع أساسها الراسخ الذي تمكَّن من الصمود خمسة قرون حتى سقطت أمام هجمات المغول.
لم يشر المسلسل إلى كردية أبي مسلم، بل التاريخ العربي يصفه بأنه فارسي، ولكن الكاتب والمخرج والقائمين على إنتاج المسلسل وحتى مدققيه التاريخيين، آثروا أن يعلنوا كردية أبا مسلم ولكن في الخيانة فقط، إنه لشرف عظيم لي ككردي أن يكون أبا مسلم كردياً خائناً، لكن لو راعى القائمين على العمل مشاعر الملايين من الكرد المسلمين لما فعلوا ذلك!!!
لقد تحولت معظم الأعمال الدرامية العربية وخاصة تلك التي تسمى تاريخية إلى أدوات تحريف التاريخ وتشويه الحقائق، وتضخيم أشياء أساساً لم تكن موجودة، إن ما تعرضه الدراما العربية وخاصة تلكم التي تسلط الضوء على العنفوان العروبي باتجاه القضية الفلسطينية، فلو كان العرب حقيقة قدموا الثوار والأموال بهذا الشكل وكما تعرضه الدراما، لما كانت فلسطين اليوم محتلة. فالزيف واقع حتى على التاريخ القريب، فما بالك بوقائع حدثت منذ قرون عدة.
كان الأجدر بالقائمين على تلك الأعمال مراعاة شعور قوميات أخرى كانت وما زالت تدين بالإسلام ولها بصمة في تاريخ الدولة الإسلامية بكل أشكالها الأموية والعباسية وغيرها، إضافة إلى أن الكرد المسلمون هم الأمة الوحيدة التي لم تستغل الدين لأغراضها القومية، فإمبراطوريات عربية وفارسية وعثمانية ركبت موجة الدين وأدارت دفتها باتجاه مصالحها، وظل الكرد فقط يرفعون راية الإسلام الحقيقي.
كمشاهد كردي مسلم للمسلسل يمقتني ما نطق به أبو جعفر المنصور عن خيانة الكرد أباء أعظم قواده ومؤيده أبو مسلم، ويسأل المسلسل الكثير من الأسئلة لعل أبرزها من هو الخائن أبو مسلم الخراساني أم أبو جعفر المنصور؟؟ ولعل السؤال الأهم ما الفائدة من إعادة إطلاق هذه المقولة في هذا التوقيت بالذات؟ أيعقل أن يكون فقط سرداً أميناً للتاريخ، وهذا ما لا أصدقه مطلقاً، فالكثير من الأعمال الدرامية العربية زيفت وحورت التاريخ لحساب مصلحة ما، قد تكون حكومة أو دولة وقد يكون مخرجاً أو منتجاً، فإثارة الفتنة بين الكرد والعرب من خلال تعميم الخيانة على الكرد وبلفظ قائد عربي مسلم، إنها ناقصة بحق الكرد الذين كانوا رافعي راية الإسلام وأعظم قوادها.
لست وكما الملايين من الكرد المسلمين حاقدين على العرب والمسلمين، وما أحاول كتابته هو تسليط ضوء على حقد تاريخي للبعض من المسلمين وخاصة إذا كانوا عرباً، الجار التاريخي للشعب الكردي، إن إثارة الفتنة بين شعبين ظلا وسيظلان حتى يرث الله الأرض، جارين شقيقين مشتركين في الكثير من الأشياء أبرزها الأرض والدين والماء والشمس، والهواء.
إن الخيانة الكردية وبفرض ظهرت من قائد تاريخي كأبي مسلم الخراساني في حربه مع أبي جعفر المنصور، لا يجب أن تعمم على أمة كاملة لها تاريخها النضالي بجوار كل القوميات التي رفعت راية الإسلام، وصاروا جنوداً لكلمة الله عز وجل، ونصرة دينه ورسوله.
يوماً ما قال الشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو في تمجيد قائد استرجع بيت المقدس والذي يحاول شعب بسيسو كاملاً استرجاعه ولا يستطيعون حتى الأن، قال:
كردياً كان صلاح الدين
انتصر فأصبح بطلاً عربياً
لو هزم صلاح الدين
لأصبح جاسوساً كردياً
خائن كأبا مسلم الخراساني، وجاسوس كصلاح الدين الأيوبي، باعوا كل شيء في سبيل إعلاء كلمة الله وراية الإسلام، ينالون اليوم هذه الهدية والتقدير من أبناء دينهم، إذ لا عتب على الأخرين، حقاً يا صلاح الدين لو كنت أسست دولة كردية، وأنت يا أبا مسلم لم تساهم في تأسيس الدولة العباسية، لكان اليوم العرب والمسلمون يفتخرون بكم، جاسوسية صلاح الدين وخيانة أبا مسلم، هي من سببت هذه الويلات بحق العالم العربي والإسلامي.
إلا بئس الأخوة هذه، نعم يا أبا مسلم إن الخيانة في آبائك الكرد!!!